
حكومة الإصلاح وبناء الدولة... سياسات واقعية لتجنب نيران الصراعات الإقليمية

مراصد
22/9/2025، 10:22:40 ص
رجح مركز دراسات دولي أن يكون “الحياد البراغماتي المتوازن” هو السيناريو الأكثر واقعية للعراق حتى عام 2030، حيث تحافظ الحكومة على سياسة النأي بالنفس والمناورة بين القوى الإقليمية، مع إدارة توازناتها الداخلية، هذا السيناريو يوفر هامشًا زمنيًا للإصلاحات، لكنه يترك الدولة معرضة للصدمات الاقتصادية والأمنية.
المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية (IISS) هو مركز أبحاث مستقل مقره لندن، الكاتب المسؤول عن هذا التقرير هو فريق بحثي متخصص في شؤون الشرق الأوسط والعراق، وقد نُشر هذا التقرير في أوائل آب 2025 بعنوان: "العراق: تجنب الصراع في ظل الاضطرابات الإقليمية".
▪︎ السياق الاستراتيجي
حلل التقرير السياق الاستراتيجي الراهن في قسمه الأول، من خلال تفكيك البيئة السياسية والأمنية في العراق حتى منتصف 2025، وخلص إلى أن العراق يواجه "لحظة مفصلية تتسم بالهشاشة"، فمن جهة، تحاول الحكومة الاتحادية التمسك بسياسة الحياد وتجنب الانجرار إلى صراع مفتوح بين إيران وإسرائيل، خاصة بعد سلسلة الغارات المتبادلة التي شهدتها المنطقة منذ ربيع 2024. وأوضح التقرير أن بغداد اعتمدت سياسة ضبط النفس عبر الامتناع عن الرد العسكري المباشر، رغم استخدام مجالها الجوي أحيانًا من قبل أطراف متصارعة. هذا السلوك يعكس إدراك النخبة العراقية أن قدرات الدولة لا تسمح بمواجهة عسكرية شاملة، وأن الخيار الدبلوماسي يبقى الأجدى في المدى المنظور. من جهة أخرى، لا تزال الجماعات المسلحة تشكل عنصر ضغط داخلي. فالحشد الشعبي، الذي تأسس عام 2014، اكتسب شرعية اجتماعية وعسكرية، لكنه اليوم يتفرع إلى تشكيلات متفاوتة الولاء بين الدولة وإيران، وهذه الكيانات تمتلك القدرة على تهديد وحدة القرار الأمني، خاصة خلال مرحلة الانتخابات العامة المقررة في تشرين الثاني 2025، على حد ما جاء في التقرير.

▪︎ التهديدات والتحديات
أشار التقرير إلى تصاعد هجمات الطائرات المسيرة التي انطلقت أحيانًا من الأراضي العراقية باتجاه أهداف إقليمية، وعلى الرغم من أن أضرارها كانت محدودة حتى الآن، فإنها تبرز مخاطر فقدان السيطرة الكاملة على المجال الأمني، كما أن تكرار الضربات الجوية على الحدود العراقية-السورية يعكس هشاشة قدرة بغداد على حماية أراضيها.
التحدي الأكبر يكمن في ضعف القدرات العسكرية الرسمية، لا سيما سلاح الجو العراقي الذي ما زال محدود الإمكانات ويعتمد بشكل كبير على الصيانة والدعم الأمريكي، أي تصعيد إقليمي واسع قد يضع بغداد أمام اختبار يفوق قدراتها الميدانية. كما يشير التقرير إلى أن الوجود الأمريكي (نحو 2,500 عنصر استشاري وعسكري) يشكل عامل توازن مزدوج: من جهة يوفر عنصر ردع ضد التمدد الإيراني ويعطي انطباعًا بالالتزام الدولي باستقرار العراق، ومن جهة أخرى، فإن أي عمليات أمريكية مباشرة قد تُستغل من القوى الموالية لإيران لإشعال الشارع وإضعاف شرعية الحكومة. وبالتالي، يظل الدور الأمريكي "سيفًا ذا حدين" يتطلب من بغداد موازنة دقيقة بين الحاجة إلى الدعم وخطر الاستفزاز.

▪︎ الحياد العراقي والانتخابات
يؤكد التقرير أن العراق في منتصف عام 2025 كان عند مفترق حساس يتميز بالتوازن الهش، السلطات العراقية تبنت استراتيجية ضبط النفس وتجنب الانجرار إلى صراع إقليمي متصاعد بين إيران وإسرائيل، يتداخل مع المواقف الأمريكية والأوروبية.
الحياد الإيجابي المرهون بالقدرات المحدودة دفع بغداد إلى تبني سياسة حياد نشط، عبر تجنب اتخاذ مواقف علنية منحازة، مع الحفاظ على قنوات مفتوحة مع كل من واشنطن وطهران، لكن التقرير يشدد على أن هذا الحياد ليس خيارا استراتيجيا مطلقا، بل خيار اضطراري نتيجة محدودية قدرات الدولة العسكرية والمؤسساتية، أي أن بغداد مُجبرة على الدبلوماسية أكثر مما هي مختارة لها. الانتخابات المقبلة تمثل عامل ضغط سياسي، إذ قد تستخدم القوى السياسية المقربة من إيران أجواء الحملات الانتخابية لتعزيز نفوذها عبر التصعيد ضد الوجود الأمريكي، أو لاستعراض قوة الفصائل المسلحة، بالمقابل، تسعى القوى المدنية إلى تثبيت خطاب السيادة والدولة الوطنية، لكن ضعف بنيتها التنظيمية يحدّ من قدرتها على مواجهة المد الفصائلي.
▪︎ دور المرجعية الدينية
يشير التقرير إلى أن المرجعية الدينية العليا في النجف الأشرف لعبت دورا حاسما في دعم سياسة النأي عن الصراع، من خلال رسائل ممثليها، وقد شددت على أن "السلاح يجب أن يكون بيد الدولة فقط"، في رسالة ضمنية للحد من شرعية أي تحرك خارج سلطة الحكومة الاتحادية، هذا الخطاب وفر للحكومة مظلة معنوية تساعدها في إدارة الضغوط، لكنه ليس ضمانة كافية لمنع انفجار داخلي إذا ما تصاعدت الأحداث.

▪︎ القراءة التحليلية
البيئة السياسية والأمنية في العراق عام 2025 تتسم بما يمكن تسميته "الاستقرار المعلق"، أي حالة من التوازن المؤقت التي قد تنهار إذا ما تعرضت لعامل ضغط خارجي (ضربة جوية كبرى) أو داخلي (تصعيد انتخابي مسلح). تحدد ثلاث ركائز أساسية ساعدت حتى الآن في تجنب الانزلاق:
- إرادة سياسية حذرة في بغداد تسعى إلى النأي عن الحرب.
- دور المرجعية الدينية ككابح أخلاقي وسياسي للفصائل.
- وجود أمريكي محدود يمنع التمدد الإيراني الكامل ويمنح الدولة هامش مناورة.
لكن هذه الركائز قابلة للاهتزاز، الإرادة السياسية قد تتأثر بالصراع الانتخابي، والمرجعية قد تواجه تجاهلًا من الفصائل، والوجود الأمريكي قد يتحول إلى سبب لصراع مباشر.
▪︎ القدرات العسكرية والاقتصادية
يمتلك العراق قوة عسكريةغير متماسكة، رغم مرور أكثر من عقدين على إعادة بناء مؤسسات الدولة بعد 2003. الجيش العراقي والشرطة الاتحادية وجهاز مكافحة الإرهاب لا تزال تعاني من مشكلات هيكلية.
كما أن ازدواجية القوة بين الدولة والفصائل المسلحة المرتبطة بإيران تجعل بعض هذه الفصائل أكثر فاعلية من وحدات الجيش النظامي، ما يعيق تطوير استراتيجية أمنية وطنية متكاملة. القدرات العسكرية العراقية ليست ضعيفة مطلقًا، لكنها غير متوازنة، وقابلة للضغط في مواجهة تهديدات خارجية أو صراعات إقليمية كبرى. اقتصاديا، العراق اقتصاد ريعي يعتمد بشكل شبه كامل على صادرات النفط، ورغم أن أسعار النفط في منتصف 2025 تمنح موارد مالية جيدة نسبيا، فإن عوامل عدة تحول دون ترجمة هذه الوفرة إلى تنمية اقتصادية مستدامة، مشروع طريق التنمية يمثل فرصة استراتيجية، لكنه يواجه عقبات داخلية وخارجية، ويبقى حتى منتصف 2025 في إطار التخطيط أكثر من كونه واقعًا مؤثرًا.

▪︎ عوامل وراء حياد العراق
حدد التقرير مجموعة عوامل وراء تبني سياسة الحياد في الحرب بين إسرائيل وإيران، لعل أبرزها:
أولا: الإرهاق الشعبي والسياسي من الحروب...
يوضح التقرير أن المجتمع العراقي، بعد أكثر من أربعة عقود من الحروب المتتالية (الحرب مع إيران 1980-1988، غزو الكويت 1990-1991، العقوبات الدولية، حرب 2003 وما تلاها من صراع أهلي وصعود داعش)، يعيش إرهاقا جماعيا من منطق المواجهة العسكرية، هذا الإرهاق جعل البيئة الشعبية أقل تقبلاً لفكرة الاصطفاف الإقليمي أو الدخول في حروب بالوكالة، وهو ما انعكس على الطبقة السياسية التي تدرك أن أي انخراط خارجي سيكلفها شرعية هشة أصلا.
ثانيا: الاعتماد الاقتصادي على أطراف متنافسة...
يشير التقرير إلى أن العراق يعتمد اقتصاديا على الولايات المتحدة والغرب (من خلال النظام المالي الدولي والدعم التقني لقطاع الطاقة)، لكنه في الوقت نفسه يعتمد على إيران في الكهرباء والغاز والروابط التجارية المباشرة. هذا التشابك يجعل من مصلحة العراق تجنب الانحياز، لأن أي اصطفاف سيؤدي إلى فقدان أحد مصادر الدعم الاقتصادي أو التعرض لعقوبات، الحياد هنا ليس خيارا مثاليا بقدر ما هو ضرورة براغماتية للبقاء.
ثالثا: الانقسامات الداخلية وميزان القوى.. يركز التقرير على أن العراق ليس كتلة سياسية متجانسة، الانقسامات بين السنة والشيعة والأكراد، وبين القوى الشيعية نفسها (الإطار التنسيقي مقابل التيار الصدري)، تفرض على الحكومة المركزية سياسة وسطية حتى لا تفجر التوازن القلق، هذه الانقسامات الداخلية لا تسمح للعراق بتبني سياسة خارجية حادة، لأن أي انحياز لطرف خارجي (إيران مثلا) سيُترجم داخليا إلى خسارة دعم مكون آخر، ما يهدد وحدة الدولة، من هنا يظهر الحياد كآلية لإدارة التوازن الداخلي قبل أن يكون خياراً خارجياً.
رابعا: تجربة الانخراط الدولي السابقة... يذكر التقرير بأن التدخل الأمريكي بعد 2003 ثم الانسحاب، ومن بعده الحرب ضد داعش (2014–2017)، أظهرت للعراقيين أن الانخراط الدولي غالبا ما يترك تكاليف طويلة المدى (دمار البنية التحتية، تصاعد الإرهاب، فقدان السيادة). ومن هنا باتت النخب السياسية العراقية أكثر حذرا من الدخول في محاور واضحة المعالم، هذه الخبرة التاريخية عززت فكرة أن الحياد - ولو كان قلقا - أفضل من الانخراط، لأنه يقلل احتمالات تحول العراق إلى ساحة صراع مباشر كما حصل في السابق.
خامسا: الضغوط الإقليمية المتوازنة... يوضح التقرير أن إيران تمارس ضغطا مستمرا عبر الفصائل المسلحة والنفوذ السياسي، في حين تسعى الولايات المتحدة إلى الحفاظ على وجود عسكري محدود وقنوات تأثير اقتصادي، أضف إلى ذلك تركيا التي تراقب الشمال وتنفذ عمليات عسكرية ضد حزب العمال الكردستاني، ودول الخليج التي تعرض استثمارات مشروطة بتحجيم النفوذ الإيراني.
سادسا: الحاجة إلى الاستقرار الاقتصادي الداخلي... أحد محاور التقرير هو أن العراق يواجه تحديات بنيوية (بطالة، خدمات متدهورة، احتجاجات شعبية دورية)، أي انخراط في صراعات إقليمية سيهدد تدفق الاستثمارات ومشاريع البنية التحتية مثل "طريق التنمية". الحياد بالنسبة للحكومة العراقية هو أيضاً أداة تطمئن المستثمرين والشركاء الدوليين بأن العراق ليس ساحة حرب مقبلة، بل دولة تحاول التركيز على الاقتصاد.

▪︎ السيناريوهات المستقبلية
أولا: الاستمرار في الحياد المتوازن: السيناريو المرجح، يوفر هامش بقاء دون التورط في صراعات، واستمرار اقتصاد ريعي.
ثانيا: الانزلاق نحو محور إيران: زيادة هيمنة الفصائل الموالية لإيران، فقدان فرص الانفتاح على الغرب والخليج، وتحويل العراق إلى ساحة مواجهة مباشرة.
ثالثا: الانفتاح على الغرب والخليج: تقليص نفوذ الميليشيات وتعزيز التعاون مع الولايات المتحدة والخليج، تحسين صورة العراق اقتصاديًا، لكنه قد يثير توترات مع إيران.
رابعا: الفوضى الداخلية والانهيار الجزئي: فشل الحكومة في إدارة التوازن الداخلي، اندلاع احتجاجات أو صراع مسلح بين الفصائل، وتحول العراق إلى ساحة صراع إقليمي مباشر.
خامسا : الإصلاح التدريجي وبناء الدولة: تعزيز استقلالية القرار العراقي، الحد من الفساد، إعادة هيكلة المؤسسات، وتنويع الاقتصاد. السيناريو الأكثر تفاؤلًا لكنه الأقل احتمالًا.
▪︎ الحياد البراغماتي
يؤكد التقرير على ان السيناريو الأكثر واقعية حتى 2030 هو الاستمرار في سياسة الحياد البراغماتي، لأن بغداد لا تملك الموارد العسكرية أو التماسك السياسي للانحياز الصريح، وفي الوقت نفسه تواجه معطيات اقتصادية واجتماعية تدفعها إلى تجنّب المواجهة المفتوحة. الحياد هو خيار اضطراري لإدارة التناقضات، يمنح العراق فرصة زمنية ثمينة للتحول من حالة البقاء غير المستقر إلى بناء الدولة، عبر استراتيجية متعددة المحاور :
- أمنية: استعادة احتكار الدولة للعنف تدريجيًا.
- اقتصادية: تنويع الإيرادات وتقليل الاعتماد على النفط.
- مؤسسية: تعزيز الشفافية والشرعية.
إذا استثمرت النخب السياسية والحكومة هذا الوقت في إصلاحات ملموسة مدعومة بتعاون دولي ذكي، يمكن خفض مخاطر الانزلاق وتحويل الحياد إلى منصة للتحول نحو دولة أكثر استقلالية واستقرارًا. وإلا، فإن الحياد سيظل مجرد توازن هش قابل للتفكك عند أول صدمة إقليمية أو داخلية.








